كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وَأَنَا أُقَدِّمُ قَبْلَ بَيَانِ وَجْهِ الِاسْتِدْلَالِ بِهَذِهِ الْعِبَارَاتِ أَمْرَيْنِ: (الْأَمْرُ الْأَوَّلُ) أَنَّك قَدْ عَرَفْتَ فِي الْأَمْرِ السَّابِعِ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ سَلَفًا وَخَلَفًا عَادَتُهُمْ أَنْ يُتَرْجِمُوا غَالِبًا الْأَسْمَاءَ أَيِ الْأَعْلَامَ، وَأَنَّ عِيسَى عليه السلام كَانَ يَتَكَلَّمُ بِاللِّسَانِ الْعِبْرَانِيِّ لَا بِالْيُونَانِيِّ، فَإِذًا لَا يَبْقَى شَكٌّ فِي أَنَّ الْإِنْجِيلَ الرَّابِعَ تَرْجَمَ اسْمَ الْمُبَشَّرِ بِهِ بِالْيُونَانِيِّ بِحَسْبِ عَادَتِهِمْ ثُمَّ مُتَرْجِمُو الْعَرَبِيَّةِ عَرَّبُوا اللَّفْظَ بِفَارَقْلِيطَ، وَقَدْ وَصَلَتْ إِلَيَّ رِسَالَةٌ صَغِيرَةٌ بِلِسَانِ أُرْدُو مِنْ رَسَائِلِ الْقِسِّيسِينَ فِي سَنَةِ أَلْفٍ وَمِائَتَيْنِ وَثَمَانِيَةٍ وَسِتِّينَ مِنَ الْهِجْرَةِ وَكَانَتْ هَذِهِ الرَّسَائِلُ طُبِعَتْ فِي كَلَكَتَّهْ وَكَانَتْ فِي تَحْقِيقِ لَفْظِ فَارْقَلِيطَ وَادَّعَى مُؤَلِّفُهَا أَنَّ مَقْصُودَهُ أَنْ يُنَبِّهَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى سَبَبِ وُقُوعِهِمْ فِي الْغَلَطِ مِنْ لَفْظِ فَارَقْلِيطَ، وَكَانَ مُلَخَّصُ كَلَامِهِ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ مُعَرَّبٌ مِنَ اللَّفْظِ الْيُونَانِيِّ فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ هَذَا اللَّفْظَ الْيُونَانِيَّ الْأَصْلِ بَارَاكَلِي طُوسَ فَيَكُونُ بِمَعْنَى الْمُعَزِّي وَالْمُعِينُ وَالْوَكِيلِ، وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ اللَّفْظَ الْأَصْلَ بِيرَكْلُوطُوَس يَكُونُ قَرِيبًا مِنْ مَعْنَى مُحَمَّدٍ وَأَحْمَدَ، فَمَنِ اسْتَدَلَّ مِنْ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ بِهَذِهِ الْبِشَارَةِ فَهِمَ أَنَّ اللَّفْظَ الْأَصْلُ بِيرَكْلُوطُوس وَمَعْنَاهُ قَرِيبٌ مِنْ مَعْنَى مُحَمَّدٍ وَأَحْمَدَ فَادَّعَى أَنَّ عِيسَى عليه السلام أَخْبَرَ بِمُحَمَّدٍ أَوْ أَحْمَدَ، لَكِنَّ الصَّحِيحَ أَنَّهُ بار كلي طوس انْتَهَى مُلَخَّصًا مِنْ كَلَامِهِ.
يَقُولُ مُحَمَّدْ رَشِيدْ مُؤَلِّفُ هَذَا التَّفْسِيرِ: إِنَّنِي أُوَضِّحُ هُنَا مَا كَتَبَهُ الشَّيْخُ رَحْمَةُ اللهِ بِكَلِمَةٍ لِلدُّكْتُورِ مُحَمَّدْ تَوْفِيقْ صِدْقِي أَوْرَدَهَا فِي هَذَا الْمَقَامِ فِي كِتَابِهِ دِينُ اللهِ فِي كُتُبِ أَنْبِيَائِهِ قَالَ رَحِمَهُ اللهُ: هَذَا اللَّفْظُ الْفَارَقْلِيطُ يُونَانِيٌّ وَيُكْتَبُ بِالْإِنْكِلِيزِيَّةِ هَكَذَا paraclete بَارَقْلِيطُ أَيِ الْمُعَزِّي وَيَتَضَمَّنُ أَيْضًا مَعْنَى الْمُحَاجِّ كَمَا قَالَ بوست فِي قَامُوسِهِ، وَهَاكَ لَفْظًا آخَرَ يُكْتَبُ هَكَذَا periclite وَمَعْنَاهُ رَفِيعُ الْمَقَامِ. سَامٍ. جَلِيلٌ. مَجِيدٌ. شَهِيرٌ. وَهِيَ كُلُّهَا مَعَانٍ تُقَرِّبُ مِنْ مَعْنَى مُحَمَّدٍ وَأَحْمَدَ وَمَحْمُودٍ.
وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْمَسِيحَ كَانَ يَتَكَلَّمُ بِالْعِبْرِيَّةِ فَلَا نَدْرِي مَاذَا كَانَ اللَّفْظُ الَّذِي نَطَقَ بِهِ عليه السلام؟ وَلَا نَدْرِي إِنْ كَانَتْ تَرْجَمَةُ مُؤَلِّفِ هَذَا الْإِنْجِيلِ لَهُ بِلَفْظِ paraclete صَحِيحَةً أَوْ خَطَأً؟ وَلَا نَدْرِي إِنْ كَانَ هَذَا اللَّفْظُ paraclete هُوَ الَّذِي تُرْجِمَ بِهِ مِنْ قَبْلُ أَمْ لَا؟ لِأَنَّنَا نَعْلَمُ أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَلْفَاظِ وَالْعِبَارَاتِ وَقَعَ فِيهَا التَّحْرِيفُ مِنَ الْكُتَّابِ سَهْوًا أَوْ قَصْدًا، كَمَا اعْتَرَفُوا بِهِ فِي جَمِيعِ كُتُبِ الْعَهْدَيْنِ رَاجِعِ الْفَصْلَ الثَّالِثَ فَإِذَا كَانَ اللَّفْظُ الْأَصْلِيُّ periclite بِيرقليطَ فَلَا يَبْعُدُ أَنَّهُ تَحَرَّفَ عَمْدًا أَوْ سَهْوًا إِلَى paraclete بَارَقْلِيطَ حَتَّى يُبْعِدُوهُ عَنْ مَعْنَى اسْمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمِمَّا يُسَهِّلُ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ تَشَابُهُ أَحْرُفِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ فِي اللُّغَةِ الْيُونَانِيَّةِ.
وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَسَوَاءٌ كَانَ هُوَ paraclete بَارَقْلِيطَ أَوْ periclite بِيرِقْلِيطَ، فَمَعْنَى كُلٍّ مِنْهُمَا يَنْطَبِقُ عَلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فَهُوَ مُعَزٍّ لِلْمُؤْمِنِينَ عَلَى عَدَمِ إِيمَانِ الْكَافِرِينَ، وَعَلَى وُجُودِ الشَّرِّ فِي هَذَا الْعَالِمِ بِإِيضَاحِ أَنَّ هَذِهِ هِيَ إِرَادَةُ اللهِ لِحِكْمَةٍ يَعْلَمُهَا هُوَ، وَمُعَزٍّ أَيْضًا لِلْمُصَابِينَ وَالْمَرْضَى وَالْفُقَرَاءِ وَغَيْرِهِمْ بِعَقِيدَةِ الْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ، وَهُوَ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُحَاجُّ الْكُفَّارَ وَالْمُشْرِكِينَ وَغَيْرَهُمْ.
إِذَا كَانَ مَعْنَاهَا الْمُحَاجُّ الْمُجَادِلُ كَمَا قَالَ بوست وَهُوَ شَهِيرٌ سَامٍ جَلِيلٌ مَجِيدٌ إِذَا كَانَ اللَّفْظُ الْأَصْلِيُّ بِيرِقْلِيطُ وَالْعِبَارَاتُ الْوَارِدَةُ فِي إِنْجِيلِ يُوحَنَّا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَا تَنْطَبِقُ إِلَّا عَلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم كَمَا بَيَّنَ ذَلِكَ صَاحِبُ كِتَابِ إِظْهَارِ الْحَقِّ وَمُؤَلِّفُ كِتَابِ فَتْحِ الْمَلِكِ الْعَلَّامِ فِي بَشَائِرِ دِينِ الْإِسْلَامِ وَكَمَا أَشَرْنَا إِلَى ذَلِكَ فِي صَفْحَةِ 82 مِنْ هَذَا الْكِتَابِ اهـ. وَنَعُودُ إِلَى سِيَاقِ صَاحِبِ إِظْهَارِ الْحَقِّ الشَّيْخِ رَحْمَةِ اللهِ، قَالَ رَحِمَهُ اللهُ.
وَأَقُولُ: إِنَّ التَّفَاوُتَ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ يَسِيرٌ جِدًّا، وَإِنَّ الْحُرُوفَ الْيُونَانِيَّةَ كَانَتْ مُتَشَابِهَةً، فَتَبَدُّلُ بيركلوطوس بباراكلي طوس فِي بَعْضِ النُّسَخِ مِنَ الْكَاتِبِ قَرِيبُ الْقِيَاسِ، ثُمَّ رَجَّحَ أَهْلُ التَّثْلِيثِ الْمُنْكِرِينَ هَذِهِ النُّسْخَةَ عَلَى النُّسَخِ الْأُخَرِ، وَمَنْ تَأْمَّلَ فِي الْبَابِ الثَّانِي مِنْ هَذَا الْكِتَابِ. وَالْأَمْرَ السَّابِعَ مِنْ هَذَا الْمَسْلَكِ السَّادِسِ بِنَظَرِ الْإِنْصَافِ اعْتَقَدَ يَقِينًا بِأَنَّ مِثْلَ هَذَا الْأَمْرِ مَنْ أَهْلِ الدِّيَانَةِ مِنْ أَهْلِ التَّثْلِيثِ لَيْسَ بِبَعِيدٍ بَلْ لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُحَسِّنَاتِ.
(وَالْأَمْرُ الثَّانِي) أَنَّ الْبَعْضَ ادَّعَوْا قَبْلَ ظُهُورِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُمْ مَصَادِيقُ لَفْظِ فَارَقْلِيطَ، مَثَلًا منتنس الْمَسِيحِيُّ الَّذِي كَانَ فِي الْقَرْنِ الثَّانِي مِنَ الْمِيلَادِ، وَكَانَ مُرْتَاضًا شَدِيدَ الِارْتِيَاضِ وَأَتْقَى أَهْلِ عَهْدِهِ: ادَّعَى فِي قُرْبِ سَنَةِ 177 مِنَ الْمِيلَادِ فِي آسْيَا الصُّغْرَى الرِّسَالَةَ، وَقَالَ: إِنِّي الْفَارَقْلِيطُ الَّذِي وَعَدَ بِمَجِيئِهِ عِيسَى عليه السلام، وَتَبِعَهُ أُنَاسٌ كَثِيرُونَ فِي ذَلِكَ كَمَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي بَعْضِ التَّوَارِيخِ، وَذَكَرَ وِلْيَمْ مَيُورْ حَالَهُ وَحَالَ مُتَّبِعِيهِ فِي الْقَسَمِ الثَّانِي مِنَ الْبَابِ الثَّالِثِ مِنْ تَارِيخِهِ بِلِسَانِ أُرْدُو الْمَطْبُوعِ سَنَةَ 1848 مِنَ الْمِيلَادِ هَكَذَا: إِنَّ الْبَعْضَ قَالُوا إِنَّهُ ادَّعَى أَنَّهُ الْفَارَقْلِيطُ يَعْنِي الْمُعَزِّي رُوحُ الْقُدُسِ، وَهُوَ كَانَ أَتْقَى؟ وَمُرْتَاضًا شَدِيدًا؟ وَلِأَجْلِ ذَلِكَ قَبِلَهُ النَّاسُ قَبُولًا زَائِدًا، انْتَهَى كَلَامُهُ.
فَعُلِمَ أَنَّ انْتِظَارَ الْفَارَقْلِيطِ كَانَ فِي الْقُرُونِ الْأُولَى الْمَسِيحِيَّةِ أَيْضًا وَلِذَلِكَ كَانَ النَّاسُ يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ مَصَادِيقُهُ، وَكَانَ الْمَسِيحِيُّونَ يَقْبَلُونَ دَعَاوِيَهُمْ. وَقَالَ صَاحِبُ لُبِّ التَّوَارِيخِ: إِنَّ الْيَهُودَ وَالْمَسِيحِيِّينَ مِنْ مُعَاصِرِي مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم كَانُوا مُنْتَظِرِينَ لِنَبِيٍّ، فَحَصَلَ لِمُحَمَّدٍ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ نَفْعٌ عَظِيمٌ؛ لِأَنَّهُ ادَّعَى أَنَّهُ هُوَ ذَاكَ الْمُنْتَظَرُ، انْتَهَى مُلَخَّصُ كَلَامِهِ. فَيُعْلَمُ مِنْ كَلَامِهِ أَيْضًا أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ كَانُوا مُنْتَظِرِينَ لِخُرُوجِ نَبِيٍّ فِي زَمَانِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ الْحَقُّ؛ لِأَنَّ النَّجَاشِيَّ مَلِكَ الْحَبَشَةِ لَمَّا وَصَلَ إِلَيْهِ كِتَابُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم قَالَ: أَشْهَدُ بِاللهِ أَنَّهُ لَلنَّبِيُّ الَّذِي يَنْتَظِرُهُ أَهْلُ الْكِتَابِ، وَكَتَبَ الْجَوَابَ وَكَتَبَ فِي الْجَوَابِ: أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللهِ صَادِقًا وَمُصَدِّقًا، وَقَدْ بَايَعْتُكَ وَبَايَعْتُ ابْنَ عَمِّكَ- أَيْ جَعْفَرَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ- وَأَسْلَمْتُ عَلَى يَدَيْهِ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ اهـ. وَهَذَا النَّجَاشِيُّ كَانَ قَبْلَ الْإِسْلَامِ نَصْرَانِيًّا.
وَكَتَبَ الْمُقَوْقِسُ مِلْكُ الْقِبْطِ فِي جَوَابِ كِتَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم هَكَذَا: (إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ مِنَ الْمُقَوْقِسِ عَظِيمِ الْقِبْطِ، سَلَامٌ عَلَيْكَ أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ قَرَأْتُ كِتَابَكَ، وَفَهِمْتُ مَا ذَكَرْتَ فِيهِ وَمَا تَدْعُو إِلَيْهِ، وَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّ نَبِيًّا قَدْ بَقِيَ، وَقَدْ كُنْتُ أَظُنُّ أَنَّهُ يَخْرُجُ بِالشَّامِ، وَقَدْ أَكْرَمْتُ رَسُولَكَ، اهـ. وَالْمُقَوْقِسُ هَذَا وَإِنْ لَمْ يُسْلِمْ لَكِنَّهُ أَقَرَّ فِي كِتَابِهِ: أَنِّي قَدْ عَلِمْتُ أَنَّ نَبِيًّا قَدْ بَقِيَ، وَكَانَ نَصْرَانِيًّا فَهَذَانِ الْمَلِكَانِ مَا كَانَا يَخَافَانِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مِنْ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم لِأَجْلِ شَوْكَتِهِ الدُّنْيَوِيَّةِ.
وَجَاءَ الْجَارُودُ بْنُ الْعَلَاءِ فِي قَوْمِهِ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَقَالَ: وَاللهِ لَقَدْ جِئْتَ بِالْحَقِّ، وَنَطَقْتَ الصِّدْقَ، وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ نَبِيًّا لَقَدْ وَجَدْتُ وَصْفَكَ فِي الْإِنْجِيلِ، وَبَشَّرَ بِكَ ابْنُ الْبَتُولِ، فَطُولُ التَّحِيَّةِ لَكَ، وَالشُّكْرُ لِمَنْ أَكْرَمَكَ، لَا أَثَرَ بَعْدَ عَيْنٍ، وَلَا شَكَّ بَعْدَ يَقِينٍ، مُدَّ يَدَكَ فَأَنَا أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنَّكَ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ ثُمَّ آمَنَ قَوْمُهُ، وَهَذَا الْجَارُودُ كَانَ مِنْ عُلَمَاءِ النَّصَارَى، وَقَدْ أَقَرَّ بِأَنَّهُ قَدْ بَشَّرَ بِهِ ابْنُ الْبَتُولِ أَيْ عِيسَى عليه السلام، فَظَهَرَ أَنَّ الْمَسِيحِيِّينَ أَيْضًا كَانُوا مُنْتَظِرِينَ لِخُرُوجِ نَبِيٍّ بَشَّرَ بِهِ عِيسَى عليه السلام.
فَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ فَأَقُولُ: إِنَّ اللَّفْظَ الْعِبْرَانِيَّ الَّذِي قَالَهُ عِيسَى عليه السلام مَفْقُودٌ، وَاللَّفْظُ الْيُونَانِيُّ الْمَوْجُودُ تَرْجَمَةٌ لَكِنِّي أَتْرُكُ الْبَحْثَ عَنِ الْأَصْلِ، وَأَتَكَلَّمُ عَلَى هَذَا اللَّفْظِ الْيُونَانِيِّ فَأَقُولُ: إِنْ كَانَ اللَّفْظُ الْيُونَانِيُّ الْأَصْلِ بيركلوطوس، فَالْأَمْرُ ظَاهِرٌ وَتَكُونُ بِشَارَةُ الْمَسِيحِ فِي حَقِّ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم بِلَفْظٍ هُوَ قَرِيبٌ مِنْ مُحَمَّدٍ وَأَحْمَدَ وَهَذَا وَإِنْ كَانَ قَرِيبَ الْقِيَاسِ بِالنَّظَرِ إِلَى عَادَاتِهِمْ لَكِنِّي أَتْرُكُ هَذَا الِاحْتِمَالَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتِمُّ عَلَيْهِ إِلْزَامًا، وَأَقُولُ: إِنْ كَانَ اللَّفْظُ الْيُونَانِيُّ الْأَصْلِ باراكلي طوس كَمَا يَدَّعُونَ فَهَذَا لَا يُنَافِي الِاسْتِدْلَالَ أَيْضًا؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ الْمُعَزِّي وَالْمُعِينُ وَالْوَكِيلُ عَلَى مَا بَيْنَ صَاحِبِ الرِّسَالَةِ أَوِ الشَّافِعِ كَمَا يُوجَدُ فِي التَّرْجَمَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْمَطْبُوعَةِ سَنَةَ 1816 وَهَذِهِ الْمَعَانِي كُلُّهَا تَصْدُقُ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَأَنَا أُبَيِّنُ الْآنَ أَنَّ الْمُرَادَ بالْفَارَقْلِيطِ النَّبِيُّ الْمُبَشَّرُ بِهِ أَعْنِي مُحَمَّدًا- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَا الرُّوحُ النَّازِلُ عَلَى تَلَامِيذِ عِيسَى عليه السلام يَوْمَ الدَّارِ الَّذِي جَاءَ ذِكْرُهُ فِي الْبَابِ الثَّانِي مِنْ كِتَابِ الْأَعْمَالِ، وَأَذْكُرُ ثَانِيًا شُبَهَاتِ عُلَمَاءِ الْمَسِيحِيَّةِ، وَأُجِيبُ عَنْهَا فَأَقُولُ: أَمَّا الْأَوَّلُ فَيَدُلُّ عَلَيْهِ أُمُورٌ:
(1) إِنَّ عِيسَى عليه السلام قَالَ أَوَّلًا إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَنِي فَاحْفَظُوا وَصَايَايَ ثُمَّ أَخْبَرَ عَنِ الْفَارَقْلِيطِ. فَمَقْصُودُهُ عليه السلام أَنْ يَعْتَقِدَ السَّامِعُونَ بِأَنَّ مَا يُلْقَى عَلَيْهِمْ بَعْدُ ضَرُورِيٌّ وَاجِبُ الرِّعَايَةِ، فَلَوْ كَانَ الْفَارَقْلِيطِ عِبَارَةً عَنِ الرُّوحِ النَّازِلِ يَوْمَ الدَّارِ لَمَا كَانَتِ الْحَاجَةُ إِلَى هَذِهِ الْفِقْرَةِ؛ لِأَنَّهُ مَا كَانَ مَظْنُونًا أَنْ يَسْتَبْعِدَ الْحَوَارِيُّونَ نُزُولَ الرُّوحِ عَلَيْهِمْ مَرَّةً أُخْرَى لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُسْتَفِيضِينَ مِنْهُ مِنْ قَبْلُ أَيْضًا، بَلْ لَا مَجَالَ لِلِاسْتِبْعَادِ أَيْضًا، لِأَنَّهُ إِذَا نَزَلَ عَلَى قَلْبِ أَحَدٍ، وَحَلَّ فِيهِ يَظْهَرُ أَثَرُهُ لَا مَحَالَةَ ظُهُورًا بَيِّنًا فَلَا يُتَصَوَّرُ إِنْكَارُ الْمُتَأَثِّرِ مِنْهُ، وَلَيْسَ ظُهُورُهُ عِنْدَهُمْ فِي صُورَةٍ يَكُونُ فِيهِ مَظِنَّةً يَكُونُ الِاسْتِبْعَادُ فَهُوَ عِبَارَةٌ عَنِ النَّبِيِّ الْمُبَشَّرِ بِهِ. حَقِيقَةُ الْأَمْرِ أَنَّ الْمَسِيحَ عليه السلام لَمَّا عَلِمَ بِالتَّجْرِبَةِ وَبِنُورِ النُّبُوَّةِ أَنَّ الْكَثِيرِينَ مِنْ أُمَّتِهِ يُنْكِرُونَ النَّبِيَّ الْمُبَشَّرَ بِهِ عِنْدَ ظُهُورِهِ أَكَّدَهُ أَوَّلًا بِهَذِهِ الْفِقْرَةِ ثُمَّ أَخْبَرَ عَنْ مَجِيئِهِ.
(2) إِنَّ هَذَا الرُّوحَ مُتَّحِدٌ بِالْأَبِ مُطْلَقًا وَبِالِابْنِ نَظَرًا إِلَى هُوَّتِهِ اتِّحَادًا حَقِيقِيًّا فَلَا يَصْدُقُ فِي حَقِّهِ فَارَقْلِيطُ آخَرُ بِخِلَافِ النَّبِيِّ الْمُبَشَّرِ بِهِ فَإِنَّهُ يَصْدُقُ هَذَا الْقَوْلَ فِي حَقِّهِ بِلَا تَكَلُّفٍ.
(3) إِنَّ الْوَكَالَةَ وَالشَّفَاعَةَ مِنْ خَوَاصِّ النُّبُوَّةِ لَا مِنْ خَوَاصِّ هَذِهِ الرُّوحِ الْمُتَّحِدِ بِاللهِ فَلَا يَصْدُقَانِ عَلَى الرُّوحِ، وَيَصْدُقَانِ عَلَى النَّبِيِّ الْمُبَشَّرِ بِهِ بِلَا تَكَلُّفٍ.
(4) إِنَّ عِيسَى عليه السلام قَالَ: هُوَ يُذَكِّرُكُمْ كُلَّ مَا قَلْتُهُ لَكُمْ وَلَمْ يَثْبُتْ فِي رِسَالَةٍ مِنْ رَسَائِلِ الْعَهْدِ الْجَدِيدِ أَنَّ الْحَوَارِيِّينَ كَانُوا قَدْ نَسُوا مَا قَالَهُ عِيسَى عليه السلام، وَهَذَا الرُّوحُ النَّازِلُ يَوْمَ الدَّارِ ذَكَّرَهُمْ إِيَّاهُ.
(5) إِنَّ عِيسَى عليه السلام قَالَ: وَالْآنَ قَدْ قُلْتُ لَكُمْ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ أَنْ يُوجَدَ حَتَّى إِذَا كَانَ- أَيْ وُجِدَ وَبُعِثَ- تُؤْمِنُونَ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ لَيْسَ الرُّوحَ؛ لِأَنَّكَ قَدْ عَرَفْتَ فِي الْأَمْرِ أَنَّهُ مَا كَانَ عَدَمُ الْإِيمَانِ مَظْنُونًا مِنْهُمْ وَقْتَ نُزُولِهِ بَلْ لَا مَجَالَ لِلِاسْتِبْعَادِ أَيْضًا، فَلَا حَاجَةَ إِلَى هَذَا الْقَوْلِ، وَلَيْسَ مِنْ شَأْنِ الْحَكِيمِ الْعَاقِلِ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِكَلَامِ فُضُولٍ، فَضْلًا عَنْ شَأْنِ النَّبِيِّ الْعَظِيمِ الشَّأْنِ، فَلَوْ أَرَدْنَا بِهِ النَّبِيَّ الْمُبَشَّرَ بِهِ يَكُونُ هَذَا الْكَلَامُ فِي مَحَلِّهِ، وَفِي غَايَةِ الِاسْتِحْسَانِ لِأَجْلِ التَّأْكِيدِ مَرَّةً ثَانِيَةً.
(6) إِنَّ عِيسَى عليه السلام قَالَ: هُوَ يَشْهَدُ لِأَجْلِي. وَهَذَا الرُّوحُ مَا شَهِدَ لِأَجْلِهِ بَيْنَ أَيْدِي أَحَدٍ؛ لِأَنَّ تَلَامِيذَهُ الَّذِينَ نَزَلَ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا مُحْتَاجِينَ إِلَى الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَعْرِفُونَ الْمَسِيحَ حَقَّ الْمَعْرِفَةِ قَبْلَ نُزُولِهِ أَيْضًا فَلَا فَائِدَةَ لِلشَّهَادَةِ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، وَالْمُنْكِرُونَ هُمُ الَّذِينَ كَانُوا مُحْتَاجِينَ لِلشَّهَادَةِ فَهَذَا الرُّوحُ مَا شَهِدَ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ بِخِلَافِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّهُ شَهِدَ لِأَجْلِ الْمَسِيحِ عليه السلام وَصَدَّقَهُ وَبَرَّأَهُ عَنِ ادِّعَاءِ الْأُلُوهِيَّةِ الَّذِي هُوَ أَشَدُّ أَنْوَاعِ الْكُفْرِ وَالضَّلَالِ، وَبَرَّأَ أُمَّهُ عَنْ تُهْمَةِ الزِّنَا، وَجَاءَ ذِكْرُ بَرَاءَتِهِمَا فِي الْقُرْآنِ فِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ، وَفِي الْأَحَادِيثِ فِي مَوَاضِعَ غَيْرِ مَحْصُورَةٍ.
(7) إِنَّ عِيسَى عليه السلام قَالَ وَأَنْتُمْ تُشْهِدُونَ؛ لِأَنَّكُمْ مَعِي مِنَ الِابْتِدَاءِ وَهَذِهِ الْآيَةُ فِي التَّرْجَمَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْمَطْبُوعَةِ سَنَةَ 1816 هَكَذَا: وَتَشْهَدُونَ أَنْتُمْ أَيْضًا؛ لِأَنَّكُمْ كُنْتُمْ مَعِي مِنَ الِابْتِدَاءِ؟ وَفِي التَّرْجَمَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْمَطْبُوعَةِ سَنَةَ 1860 هَكَذَا وَتَشْهَدُونَ أَنْتُمْ أَيْضًا لِأَنَّكُمْ مَعِي مِنَ الِابْتِدَاءِ فَيُوجَدُ فِي هَذِهِ التَّرَاجِمِ الثَّلَاثِ لَفْظُ أَيْضًا وَكَذَا يُوجَدُ فِي التَّرَاجِمِ الْفَارِسِيَّةِ الْمَطْبُوعَةِ سَنَةَ 1816 وَسَنَةَ 1828 وَسَنَةَ 1841 وَفِي تَرْجَمَةِ أُرْدُو الْمَطْبُوعَةِ سَنَةَ 1814 تَرْجَمَةُ لَفْظِ أَيْضًا، فَلَفْظُ أَيْضًا سَقَطَ مِنَ التَّرَاجِمِ الَّتِي نُقِلَتْ عَنْهَا عِبَارَةُ يُوحَنَّا سَهْوًا أَوْ قَصْدًا فَهَذَا الْقَوْلُ يَدُلُّ دَلَالَةً ظَاهِرَةً عَلَى أَنَّ شَهَادَةَ الْحَوَارِيِّينَ غَيْرُ شَهَادَةِ الْفَارَقْلِيطِ، فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ الرُّوحَ النَّازِلَ يَوْمَ الدَّارِ لَمْ تُوجَدْ مُغَايَرَةٌ بَيْنَ الشَّهَادَتَيْنِ؛ لِأَنَّ الرُّوحَ الْمَذْكُورَ لَمْ يَشْهَدْ شَهَادَةً مُسْتَقِلَّةً غَيْرَ شَهَادَةِ الْحَوَارِيِّينَ بَلْ شَهَادَةُ الْحَوَارِيِّينَ هِيَ شَهَادَتُهُ بِعَيْنِهَا؛ لِأَنَّ هَذَا الرُّوحَ مَعَ كَوْنِهِ إِلَهًا مُتَّحِدًا بِاللهِ اتِّحَادًا حَقِيقِيًّا بَرِيًّا مِنَ النُّزُولِ وَالْحُلُولِ وَالِاسْتِقْرَارِ وَالشَّكْلِ- الَّتِي هِيَ مِنْ عَوَارِضِ الْجِسْمِ وَالْجُسْمَانِيَّاتِ- نَزَلَ مِثْلَ رِيحٍ عَاصِفَةٍ، وَظَهَرَ فِي أَشْكَالِ أَلْسِنَةٍ مُنْقَسِمَةٍ كَأَنَّهَا مِنْ نَارٍ وَاسْتَقَرَّتْ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَوْمَ الدَّارِ فَكَانَ حَالُهُمْ كَحَالِ مَنْ عَلَيْهِ أَثَرُ الْجِنِّ، فَكَمَا أَنَّ قَوْلَ الْجِنِّ يَكُونُ قَوْلَهُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ فَكَذَلِكَ كَانَتْ شَهَادَةُ الرُّوحِ هِيَ شَهَادَةُ الْحَوَارِيِّينَ، فَلَا يَصِحُّ هَذَا الْقَوْلُ بِخِلَافِ مَا إِذَا كَانَ الْمُرَادُ بِهِ النَّبِيَّ الْمُبَشَّرَ بِهِ فَإِنَّ شَهَادَتَهُ غَيْرُ شَهَادَةِ الْحَوَارِيِّينَ.
(8) إِنَّ عِيسَى عليه السلام قَالَ: إِنْ لَمْ أَنْطَلِقْ لَمْ يَأْتِكُمُ الْفَارَقْلِيطُ فَأَمَّا إِنِ انْطَلَقْتُ أَرْسَلْتُهُ إِلَيْكُمْ فَعَلَّقَ مَجِيئَهُ بِذَهَابِهِ وَهَذَا الرُّوحُ عِنْدَهُمْ نَزَلَ عَلَى الْحَوَارِيِّينَ فِي حُضُورِهِ لَمَّا أَرْسَلَهُمْ إِلَى الْبِلَادِ الْإِسْرَائِيلِيَّةِ فَنُزُولُهُ لَيْسَ بِمَشْرُوطٍ بِذَهَابِهِ فَلَا يَكُونُ مُرَادًا بالْفَارَقْلِيطِ، بَلِ الْمُرَادُ بِهِ شَخْصٌ لَمْ يَسْتَفِضْ مِنْهُ أَحَدٌ مِنَ الْحَوَارِيِّينَ قَبْلَ زَمَانِ صُعُودِهِ، وَكَانَ مَجِيئُهُ مَوْقُوفًا عَلَى ذَهَابِ عِيسَى عليه السلام، وَمُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ جَاءَ بَعْدَ ذَهَابِ عِيسَى عليه السلام، وَكَانَ مَجِيئُهُ مَوْقُوفًا عَلَى ذَهَابِ عِيسَى عليه السلام؛ لِأَنَّ وُجُودَ رَسُولَيْنِ ذَوِي شَرِيعَتَيْنِ مُسْتَقِلَّتَيْنِ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ غَيْرُ جَائِزٍ، بِخِلَافِ مَا إِذَا كَانَ الْآخِرُ مُتَّبِعًا لِشَرِيعَةِ الْأَوَّلِ أَوْ يَكُونُ كُلٌّ مِنَ الرُّسُلِ مُتْبِعًا لِشَرِيعَةٍ وَاحِدَةٍ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ وُجُودُ اثْنَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ وَمَكَانٍ وَاحِدٍ كَمَا ثَبَتَ وُجُودُهُمْ مَا بَيْنَ زَمَانِ مُوسَى عليه السلام وَعِيسَى عليه السلام.